فصل: تفسير الآيات (138- 139):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (131- 135):

{ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آَخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآَتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)}
ولما ذكر سبحانه إقامة الحجة على الكافر في المعاد بالرسل عليهم السلام، علل إرسالهم ترغيباً وحثاً في اتباعهم في أيام المهلة بعد ترهيب، وتنبيهاً وإرشاداً في صادع تخويف وتأديب فقال: {ذلك} أي الأمر العظيم الجدوى هو أن أرسلنا الرسل {أن} أي لأجل أنه {لم يكن ربك} أي المحسن إليك بتشريف قومك {مهلك} أي ثابتاً إهلاكه {القرى بظلم} أي بسبب ظلم ارتكبوه {وأهلها غافلون} أي غريقون في الغفلة عما يجب عليهم مما لا تستقل به عقولهم، أي بما ركب فيهم من الشهوات وغلب عليهم من اللذات، فأوقف عقولهم عن نافذ المعرفة بما يراد بهم، فأرسلنا إليهم الرسل حتى أيقظوهم من رقدتهم وأنبهوهم من غفلتهم، فصار تعذيبهم بعد تكذيبهم هو الحق الواجب والعدل الصائب، ويجوز أن يكون المعنى: مهلكهم ظالماً، فيكون المنفي من الظلم كالمنفي في قوله تعالى: {وما ربك بظلام للعبيد} [فاطر: 46] وعلى الأول المنفي ظلمهم.
ولما بيّن سبحانه أن لأحد الفريقين دار السلام، والآخر دار الملام، قال جامعاً للفريقين عاطفاً على قوله: {لهم دار السلام عند ربهم} [الأنعام: 127]: {ولكل} أي عامل من الفريقين صالح أو طالح في قبيلي الجن والإنس في الدارين {درجات} أي يعليهم الله بها {مما} أي من أجل ما {عملوا} ودركات يهويهم فيها كذلك.
ولما تقدم أنه تعالى لا يهلك المجرمين إلاّ بعد الإعذار إليهم، وتضمن ذلك إمهالهم، وختم أحوالهم بأنهم موضع لثبوت الغفلة ودوامها، نفى أن يسلم شيء من ذلك بجناب عظمته على وجه أثبت له ذلك إحاطة العلم بجميع أعمالهم فقال: {وما ربك} أي المحسن إليك بإعلاء أوليائك وإسفال أعدائك، وأغرق في النفي لإثبات مزيد العلم فقال: {بغافل عما يعملون} أي عن شيء يعمله أحد من الفريقين، بل هو عالم بكل شيء من ذلك وبما يستحقه العامل قادر على جزائه، فلا يقع في وهم أن الإمهال لخفاء الاستحقاق بخفاء الموجب له، فالآية من النصوص في كتابة الصالحين من الجن.
ولما كان طلب العبادة للائتمار والانتهاء ربما أوهم الحاجة إليها لنفع في الطاعة أو ضرر يلحقه سبحانه من المعصية، وكان الإمهال مع المبارزة ربما ظن أنه عن عجز، قال مرغباً مرهباً: {وربك} أي المحسن إليك وإليهم بإرسالك، وحصر الخبر في المبتدإ بقوله: {الغني} أي وحده الغني المطلق عن كل عابد وعبادته، فليعمل العامل لنفع نفسه أو ضرها {ذو الرحمة} أي وحده بلإمهال والإرسال للتنبيه على ما يستحقه من الأعمال؛ وملا كان اختصاصه بالغنى والرحمة فلا رحمة إلا منه ولا غنى إلا عنه، وأنه ما رتب الثواب والعقارب إلا رحمة منه وجوداً، استأنف بيان ذلك، وأخبر عن هذا المبتدإ بوصفيه عند من جعلها وصفين بقوله مصرحاً بما أفاده: {إن يشأ يذهبكم} أي جميعاً بالإهلاك، فلا يقع في ظن أحد منكم أن الإهلاك متوقف على شيء غير مشيئته، ولكنه قضى بإمهالكم إلى آجالكم رحمة لكم وإكراماً لنبيكم صلى الله عليه وسلم؛ ثم قال تحقيقاً لغناه أيضاً: {ويستخلف}.
ولما كان لم يجعل لأحد الخلد، أدخل الجار فقال: {من بعدكم} أي بعد هلاككم {ما يشاء} أي يبدع غيركم من الخلق من جنسكم أو غير جنسكم كما أبدع أباكم آدم من التراب والتراب من العدم وفرعكم منه {كما أنشأكم من ذرية} أي نسل {قوم آخرين} أي بعد أن أهلكهم أجمعين، وهم أهل السفينة وقد كنتم نطفاً في أصلابهم، لم يكن في واحدة منها حياة.
ولما تقرر أن له الوصفين الملزومين للقدرة، أنتج ذلك قوله جواباً لاستعجالهم بالعذاب استهزاء: {إن ما توعدون} أي من البعث وغيره {لآت} أي لابد من وقوعه لأن المتوعد لا يبدل القول لديه ولا كفوء له يعارضه فيه {وما أنتم بمعجزين} أي بثابت لكم الإتيان بشيء يعجز عنه الخصم، فتمهد الأمر من جهته ومن جهتكم لوجود المقتضي وانتفاء المانع، وفي ذلك تقرير لأمر رحمته لأن القادر إذا اراد النقمة أخذ على غرة ولم يهدد، وإذا أراد الرحمة تقدم بالوعيد ليحذر الفائزون ويستسلم الخاسرون.
ولما تقرر ذلك من التهديد على إنكار البعث وتحرر، فأنتج الاجتهاد للعاقل- ولا بد- في العمل، وكان أكثر الخلق أحق، أمره سبحانه بالنصيحة بقوله: {قل يا قوم} أي يا أقرب الخلق إليّ وأعزهم عليّ ومن لهم قيام في الأمور وكفاية عند المهمات {اعملوا} وأشار إلى مزيد القوة بعد التعبير بالقوم بحرف الاستعلاء فقال: {على مكانتكم} أي على ما لكم من القدرة على العمل والمكنة قبل أن تأتي الدواهي وتسبقكم القواصم بخفوق الأجل، وفيه مع النصيحة تخويف أشد مما قبله، لأن تهديد الحاضر على لسان الغير مع الإعراض أشد من مواجهته بالتهديد، أي أنكم لم تقبلوا بذلك التهديد الأول كنتم أهلاً للإعراض والبعد.
ولما كان أدل شيء على النصيحة مبادرة الناصح إلى مباشرة ما نصح به ودعا إليه، قال مستانفاً أو معللاً: {إني عامل} أي على مكانتي وبقدر استطاعتي قبل الفوت بحادث الموت، ويمكن أن يكون متمحضاً للتهديد، فيكون المعنى: اعملوا بما أنتم تعملونه الآن من مخالفتي بغاية ما لكم من القوة، إني كذلك أعمل فيما جئت به.
ولما كان وقوع المتوعد به سبباً للعلم بالعاقبة، وكان السياق لعدم تذكرهم وغرورهم وقلة فطنتهم، حسن إثبات الفاء في قوله: دون إسقاطها لأن الاستئناف يتعطف للسؤال فقال: {فسوف تعلمون} أي يقع لكم بوعد لا خلف فيه العلم، فكأنه قيل: أيّ علم؟ فقيل: {من تكون له} كوناً كأنه جبل عليه {عاقبة الدار} أي بيني وبينكم، وهذا في إثبات الفاء بخلاف ما في قصة شعيب عليه السلام من سورة هود عليه السلام في حذفها؛ ولما كان التقدير جواباً لما تقرر من سؤالهم: عاقبة الدار للعامل العدل، استأنف قوله: {إنه لا يفلح الظالمون} أي الغريقون في الظلم كائنين من كانوا، فلا يكون لهم عاقبة الدار، فالآية من الاحتباك: ذكرُ العاقبة أولاً دليل على حذفها ثانياً، وذكر الظلم ثانياً دليل على حذف العدل أولاً.

.تفسير الآيات (136- 137):

{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136) وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137)}
ولما تمت هذه الآيات من قبح طريقتهم في إنكار البعث وحسن طريقة الإسلام على هذا الأسلوب البديع والمثال البعيد المنال الرفيع وختمت بحال الظالم، شرع في تفصيل قوله: {أغير الله أتخذ ولياً فاطر السماوات والأرض} [الأنعام: 14] على أسلوب آخر ابتدأه ببيان ظلمهم وجهالاتهم وأباطيلهم تنبيهاً على سخافة عقولهم تنفيراً عنهم بوضعهم الأشياء في غير مواضعها وإخراجها عمن هي له ونسبتها إلى من لا يملك شيئاً وقتل الأولاد وتسييب الأنعام وغير ذلك، فقال عاطفاً على {وجعلوا لله شركاء الجن} [الأنعام: 100]: {وجعلوا} أي المشركون العادلون بربهم الأوثان {لله} أي الملك الأعلى الذي لا كفوء له {مما ذرأ} أي خلق وأنشأ وبث ولم يشركه في خلقه أحد {من الحرث والأنعام نصيباً} أي وجعلوا لشركائهم نصيباً؛ ولما كان الجعل لا يعرف إلا بالقول، سبب عنه قوله: {فقالوا} أي بألسنتهم بعد أن قالوا بأفئدتهم {هذا لله} أي الملك الأعلى {بزعمهم} أي ادعائهم الباطل وتصرفهم بكذب ادعائهم التخصيص بالله، ولذا أسقط الزعم من قوله: {وهذا لشركائنا} أي وليس لهم سند في هذه القسمة إلا أهوائهم.
ولما كان هذا سفهاً بتسويتهم من لا يملك شيئاً بمن يملك كل شيء، بين من فعلهم ما هو أشد سفهاً منه بشرح ما لوح إليه التعبير بالزعم فقال مسبباً عن ذلك ومفرعاً: {فما كان لشركائهم} أي بزعمهم أنهم شركاء {فلا يصل إلى الله} أي الذي هو المالك مع اتصافه بصفات الجلال والجمال {وما كان لله} أي على ما له من الكبر والعظمة والجلال والعزة {فهو يصل إلى شركائهم} فإذا هلك ما سموا لشركائهم أو أجدب وكثر ما لله قالوا: ليس لآلهتنا بد من نفقة، فأخذوا ما لله فأنفقوه على آلهتهم، وإذا أجدب الذي لله وكثر ما لآلهتهم قالوا: لو شاء الله لأزكى الذل له، فلا يردون عليه شيئاً مما للآلهة.
ولما بلغ هذا غاية السفه قال: {ساء ما يحكمون} أي حكمهم هذا أسوأ حكم؛ ذكر الإمام أبو الربيع سليمان بن سالم الكلاعي في سيرته في وفد خولان أنه كان لهم صنم يسمى عم أنس، وأنهم لما وفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم ذكروا له أنهم كانوا يجعلون من أنعامهم وحروثهم جزءاً له وجزءاً لله بزعمهم، قالوا: كنا نزرع الزرع فنجعل له وسطه فنسميه له ونسمي زرعاً آخر حجرة لله عزّ وجلّ، فإذا مالت الريح بالذي سميناه لله جعلناه لعم أنس، وإذا مالت الريح بالذي جعلناه لعم أنس لم نجعله لله، فذكر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله عزّ وجلّ أنزل عليه في ذلك {وجعلوا لله} الآية، قالوا: وكنا نتحاكم إليه فيتكلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تلك الشياطين تكلمكم»، قالوا: فأصبحنا برسول الله وقلوبنا تعرف أنه كان لا يضر ولا ينفع ولا يذري من عبده ممن لم يعبده. وقال ابن هشام في مقدمة السيرة إنهم كانوا يقسمون له، فما دخل في حق عم أنس من حق الله الذي سموه له تركوه له، وما دخل في حق الله من حق عم أنس ردوه عليه، قال: وهم بطن من خولان يقال لهم الأديم؛ وقال عبد الرزاق في تفسيره: أخبرنا معمر عن قتادة قال: كانوا يعزلون من أموالهم شيئاً فيقولون: هذا لله وهذا لأصنامهم، فإن ذهب شيء مما جعلوا لشركائهم يخالط شيئاً مما جعلوه ردوه، وإن ذهب شيء مما جعلوه لله يخالط شيئاً مما جعلوه لشركائهم تركوه، وإن أصابتهم سنة أكلوا مما جعلوا لله وتركوا ما جعلوا لشركائهم، فقال عزّ وجل: {ساء ما يحكمون} وقال البغوي: كانوا يجعلون لله من حروثهم وأنعامهم وثمارهم وسائر أموالهم نصيباً وللأوثان نصيباً، فما جعلوه لله صرفوه للضيفان والمساكين، وما جعلوه للأصنام أنفقوه على الأصنام وخدمها، فإن سقط شيء مما جعلوه لله في نصيب الأوثان تركوه وقالوا: إن الله غني عن هذا، وإن سقط شيء من نصيب الأوثان فيما جعلوه لله ردوه إلى الأوثان وقالوا: إنها محتاجة، وكان إذا هلك أو انتقص شيء مما جعلوه لله لم يبالوا به، وإذا هلك أو انتقص شيء مما جعلوه للأصنام جبروه بما جعلوه لله.
ولما كان هذا متضمناً لأنهم نقصوا أموالهم بأنفسهم في غير طائل فجعلوها لمن لا يستحقها، نبه تعالى على أن ذلك تزيين من أضلهم من الشياطين من سدنة الأصنام وغيرهم من الإنس ومن الجن المتكلمين من أجواف الأصنام وغيرهم، فقال منبهاً على أنهم زينوا لهم ما هو أبين منه {وكذلك} أي ومثل ما زين لجميع المشركين تضييع أموالهم والكفر بربهم شركاؤهم {زين لكثير من المشركين}.
ولما كان المزين لخسته أهل لأن لا يقبل تزيينه ولا يلتفت إليه، فكان امتثال قوله غريباً، وكان الإقدام على فعل الأمر المزين أشد غرابة، قدمه تنبيهاً على ذلك فقال: {قتل أولادهم} أي بالوأد خشية الإملاق والنحر لآلهتهم، وشتان بين من يوجد لهم الولد ويرزقه والرزق ويخلقه وبين من لا يكون إلا سبباً في إعدامه؛ ولما كان في هذا غاية الغرابة تشوفت النفس إلى فاعل التزيين فقال: {شركاؤهم} أي وهم أقل منهم بما يخاطبون به من أجواف الأصنام وبما يحسن لهم السدنة والأهوية بسبب الأصنام.
ولما كان هذا أمراً معجباً، كان الأمر في قراءة ابن عامرالمولود في زمان النبي صلى الله عليه وسلم المشمول ببركة ذلك العصر الآخذ عن جلة من الصحابة الموصوف بغزارة العلم ومتانة الدين وقوة الحفظ والضبط وحجة النقل في إسناد الفعل إلى الشركاء بإضافة المصدر إلى فاعله أعجب، وفصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول- وهو الأولاد- لأن وقوع القتل فيهم كما تقدم أعجب.
ولما كان ذلك ربما كان لفائدة استهين لها هذا الفعل العظيم، ذكر أنه ليس له فائدة إلا الهلاك في الدنيا والدين الذي هو هلاك في الآخرة ليكون ذلك أعجب فقال: {ليردوهم} أي ليهلكوهم هلاكاً لا فائدة فيه بوجه {وليلبسوا} أي يخلطوا ويشبهوا {عليهم دينهم} أي وهو دين إبراهيم الذي أمره الله بذبح ولده إسماعيل عليهما السلام فما أقدم عليه إلاّ بأمر الله ثم إنه فداه ولم يمض ذبحه، فخالف هؤلاء عن أمر الشركاء الأمرين معاً فجمعوا لهم بذلك بين إهلاكين: في النفس والدين، فان القتل في نفسه عظيم جداً، ووقوعه تديناً بغير أصل ولا شبهة أعظم، فلا أضل ممن تبع من كان سبباً لإهلاك نفسه ودينه.
ولما كان العرب يدعون الأذهان الثاقبة والأفكار الصافية والآراء الصائبة والعقول الوافرة النافذة، ذكر لهم ذلك على سبيل التعليل استهزاء بهم، يعني أنهم فعلوا ذلك لهذه العلة فلم يفطنوا بهم ولم يدركوا ما أرادوا بكم مع أنهم حجارة، فأنتم أسفل منهم؛ ولما أثبت للشركاء فعلاً هو التزيين، وكان قد نفي سابقاً عنهم وعن سائر أعداء الأنبياء الاستقلال به، وأناط الأمر هناك- لأن السياق للأعداء- بصفة الربوبية المقتضية للحياطة والعناية، وكان الكلام هنا في خصوص الشركاء، علق الأمر باسم الذات الدال على الكمال المقتضي للعظمة والجبروت والكبر وسائر الأسماء الحسنى على وجه الإحاطة الجلال فقال: {ولو شاء الله} أي بما له من العظمة والإحاطة بجميع أوصاف الكمال المقتضية للعلو عن الأنداد والتنزه عن الشركاء والأولاد أن لا يفعله المشركون {ما فعلوه} أي ذلك الذي زين لهم، بل ذلك إنما هو بإرادته ومشيئه احتراساً من ظن أنهم يقدرون على شيء استقلالاً، وتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتخفيفاً، وأكد التسلية بقوله: {فذرهم وما يفترون} أي يتقولون من الكذب ويتعمدونه.

.تفسير الآيات (138- 139):

{وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)}
ولما ذكر إقدامهم على ما قبحه الشرع، ولامه على تقبيحه العقلُ من قتل الأولاد، أتبعه إحجامهم عما حسنه الشرع من ذبح بعض الأنعام لنفعهم، وضم إليه جملة مما منعوا أنفسهم منه ودانوا به لمجرد أهوائهم فقال: {وقالوا} أي المشركون سفهاً وجهلاً {هذه} إشارة إلى قطعة من أموالهم عينوها لآلهتهم {أنعام وحرث حجر} أي حرام محجور عليه فلا يصل أحد إليه، وهو وصف يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، لأن حكمه حكم الأسماء غير الصفات {لا يطعمها} أي يأكل منها {إلا من نشاء} أي من السدنة ونحوهم {بزعمهم} أي بتقولهم بمجرد الهوى من غير سند عن الله الذي له ملكوت السماوات والأرض، وهم كاذبون في هذا الزعم في أصل التحريم وفي نفوذ المنع، فلو أراد الله أن تؤكل لأكلت ولم يقدروا على منع {وأنعام}.
ولما كان ذمهم على مجرد التجريم لا على كونه من معين، بني للمجهول قوله: {حرمت ظهورها} يعني البحائر وما معها فلا تركب {وأنعام لا يذكرون} أي هؤلاء المتقولون على الله {اسم الله} الذي حاز جميع العظمة {عليها} أي في الذبح أو غيره {افتراء} أي تعمداً للكذب {عليه}.
ولما كان هذا لعظمه من جهة أنه تعمد للكذب على ملك الملوك موضع تشوف السامع إلى ما يكون عنه، استأنف قوله: {سيجزيهم} أي بوعد صادق لا خلف فيه {بما} أي بسبب ما {كانوا} أي جبلة وطبعاً {يفترون} أي يتعمدون من الكذب، أما بعد إظهار الحق فواضح، وأما قبله فلكونه في غاية ما يكون من ظهور الفساد. ولما ذكر من سفههم ما فيه إقدام محض وما فيه إحجام خالص محت، أتبعه ما هو مختلط منهما فقال: {وقالوا} أي المشركون أو بعضهم وأقره الباقون {ما في بطون هذه} إشارة إلى ما اقتطعوه لآلهتهم، وبينوه بقولهم: {الأنعام} أي من الأجنة {خالصة} أي خلوصاً لا شوب فيه، أنث للحمل على معنى الأجنة، أو تكون التاء للمبالغة أو تكون مصدراً كالعافية، أي ذو خالصة {لذكورنا}؛ ولما كان المراد العراقة في كل صفة، أتى بالواو فقال: {ومحرم} وحذف الهاء إما حملاً على اللفظ أو تحقيقاً لأن المراد ب {خالصة} المبالغة {على أزواجنا} أي إناثنا، وكأنه عبر بالأزواج بياناً لموضع السفه بكونهن شقائق الرجال، هذا إن ولد حياً {وإن يكن} أي ما في بطونها {ميتة} وكأنه أثبت هاء التأنيث مبالغة، وأنث الفعل أبو جعفر وابن عامر وأبو بكر عن عاصم حملاً على معنى ما ورفع الاسم على التمام ابن كثير وأبو جعفر وابن عامر، وذكر ابن كثير لأن التأنيث غير حقيقي، ونصب الباقون على جعلها ناقصة مع التذكير حملاً على لفظ {ما} {فهم} أي ذكورهم وإناثهم {فيه} أي ذلك الكائن الذي في البطون {شركاء} أي على حد سواء.
ولما كان ذلك كله وصفاً منهم للأشياء في غير مواضعها التي يحبها الله قال: {سيجزيهم وصفهم} أي بأن يضع العذاب الأليم في كل موضع يكرهون وصفه فيه، حتى يكون مثل وصفهم الذي لم يزالوا يتابعون الهوى فيه حتى صار خلقاً لهم ثابتاً فهو يريهم وخيم أثره، ثم علل ذلك بقوله: {إنه حكيم} أي لا يجازى على الشيء إلا بمثله ويضعه في أحق مواضعه وأعدلها {عليم} أي بالمماثلة ومن يستحقها وعلى أيّ وجه يفعل، وعلى أيّ كيفية يكون أتم وأكمل، وفي ذلك أتم إشارة إلى أن هذه الأشياء في غاية البعد عن الحكمة، فهو متعال عن أن يكون شرعها وهي سفه محض لا يفعلها إلاّ ظالم جاهل.